سورة النحل - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النحل)


        


{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)}
اعلم أنه تعالى لما حكى عن القوم عظيم كفرهم وقبيح قولهم، بين أنه يمهل هؤلاء الكفار ولا يعاجلهم بالعقوبة، إظهاراً للفضل والرحمة والكرم، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: احتج الطاعنون في عصمة الأنبياء عليهم السلام بقوله تعالى: {ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة} من وجهين:
الأول: أنه قال: {ولا يؤاخذ الله الناس بظلمهم} فأضاف الظلم إلى كل الناس، ولا شك أن الظلم من المعاصي، فهذا يقتضي كون كل إنسان آتياً بالذنب والمعصية، والأنبياء عليهم السلام من الناس، فوجب كونهم آتين بالذنب والمعصية.
والثاني: أنه تعالى قال: ما ترك على ظهرها من دابة وهذا يقتضي أن كل من كان على ظهر الأرض فهو آت بالظلم والذنب، حتى يلزم من إفناء كل ما كان ظالماً إفناء كل الناس.
أما إذا قلنا: الأنبياء عليهم السلام لم يصدر عنهم ظلم فلا يجب إفناؤهم، وحينئذ لا يلزم من إفناء كل الظالمين إفناء كل الناس، وأن لا يبقى على ظهر الأرض دابة، ولما لزم علمنا أن كل البشر ظالمون سواء كانوا من الأنبياء أو لم يكونوا كذلك.
والجواب: ثبت بالدليل أن كل الناس ليسوا ظالمين لأنه تعالى قال: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات} [فاطر: 32] أي فمن العباد من هو ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق، ولو كان المقتصد والسابق ظالماً لفسد ذلك التقسيم، فعلمنا أن المقتصدين والسابقين ليسوا ظالمين، فثبت بهذا الدليل أنه لا يجوز أن يقال كل الخلق ظالمون.
وإذا ثبت هذا فنقول: الناس المذكورون في قوله: {ولو يؤاخذ الله الناس} إما كل العصاة المستحقين للعقاب أو الذين تقدم ذكرهم من المشركين ومن الذين أثبتوا لله البنات. وعلى هذا التقدير فيسقط الاستدلال. والله أعلم.
المسألة الثانية: من الناس من احتج بهذه الآية على أن الأصل من المضار الحرمة، فقال: لو كان الضرر مشروعاً لكان إما أن يكون مشروعاً على وجه يكون جزاء على جرم صادر منهم أو لا على هذا الوجه، والقسمان باطلان، فوجب أن لا يكون مشروعاً أصلاً.
أما بيان فساد القسم الأول، فلقوله تعالى: {ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك على ظهرها من دابة} والاستدلال به نم وجهين:
الأول: أن كلمة لو وضعت لانتفاء الشيء لانتفاء غيره. فقوله: {ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك على ظهرها من دابة} يقتضي أنه تعالى ما أخذهم بظلمهم وأنه ترك على ظهرها من دابة.
والثاني: أنه لما دلت الآية على أن لازمة أخذ الله الناس بظلمهم هو أن لا يترك على ظهرها دابة، ثم إنا نشاهد أنه تعالى ترك على ظهرها دواب كثيرين، فوجب القطع بأنه تعالى لا يؤاخذ الناس بظلمهم، فثبت بهذا أنه لا يجوز أن تكون المضار مشروعة على وجه تقع أجزية عن الجرائم.
وأما القسم الثاني: وهو أن يكون مشروعاً ابتداء لا على وجه يقع أجزية عن جرم سابق، فهذا باطل بالإجماع، فثبت أن مقتضى هذه الآية تحريم المضار مطلقاً، ويتأكد هذا أيضاً بآيات أخرى كقوله تعالى: {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها} [الأعراف: 56] وكقوله: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [لحج: 78] وكقوله: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [البقرة: 185] وكقوله عليه السلام: «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» وكقوله: «ملعون من ضر مسلماً» فثبت بمجموع هذه الآيات والأخبار أن الأصل في المضار الحرمة، فنقول: إذا وقعت حادثة مشتملة على الضرر من كل الوجوه، فإن وجدنا نصاً خاصاً يدل على كونه مشروعاً قضينا به تقديماً للخاص على العام، وإلا قضينا عليه بالحرمة بناء على هذا الأصل الذي قررناه.
ومنهم من قال هذه القاعدة تدل على أن كل ما يريده الإنسان وجب أن يكون مشروعاً في حقه، لأن المنع منه ضرر، والضرر غير مشروع بمقتضى هذا الأصل وكل ما يكرهه الإنسان وجب أن يحرم لأن وجوده ضرر والضرر غير مشروع، فثبت أن هذا الأصل يتناول جميع الوقائع الممكنة إلى يوم القيامة، ثم نقول القياس الذي يتمسك به في إثبات الأحكام إما أن يكون على وفق هذه القاعدة أو على خلافها، والأول باطل: لأن هذا الأصل يغني عنه، والثاني باطل؛ لأن النص راجح على القياس، والله أعلم.
المسألة الثالثة: قالت المعتزلة: هذه الآية دالة على أن الظلم والمعاصي ليست فعلاً لله تعالى، بل تكون أفعالاً للعباد، لأنه تعالى أضاف ظلم العباد إليهم، وما أضافه إلى نفسه. فقال: {ولا يؤاخذ الله الناس بظلمهم} وأيضاً فلو كان خلقاً لله تعالى لكانت مؤاخذتهم بها ظلماً من الله تعالى، ولما منع الله العباد من الظلم في هذه الآية؛ فبأن يكون منزهاً عن الظلم كان أولى، قالوا: ويدل أيضاً على أن أعمالهم مؤثرة في وجوب الثواب والعقاب أو قوله: {بظلمهم} الباء فيه تدل على العلية كما في قوله: {ذلك بأنهم شاقوا الله} [الأنفال: 13].


واعلم أن الكلام في هذه المسائل قد ذكرناه مراراً فلا نعيده. والله أعلم.
المسألة الرابعة: ظاهر الآية يدل على أن إقدام الناس على الظلم يوجب إهلاك جميع الدواب وذلك غير جائز، لأن الدابة لم يصدر عنها ذنب، فكيف يجوز إهلاكها بسبب ظلم الناس؟
والجواب عنه من وجهين:
الوجه الأول: أنا لا نسلم أن قوله: ما ترك على ظهرها من دابة يتناول جميع الدواب.
وأجاب أبو علي الجبائي عنه: أن المراد لو يؤاخذهم الله بما كسبوا من كفر ومعصية لعجل هلاكهم، وحينئذ لا يبقى لهم نسل، ثم من المعلوم أنه لا أحداً إلا وفي أحد آبائه من يستحق العذاب وإذا هلكوا فقد بطل نسلهم، فكان يلزمه أن لا يبقى في العالم أحد من الناس، وإذا بطلوا وجب أن لا يبقى أحد من الدواب أيضاً، لأن الدواب مخلوقة لمنافع العباد ومصالحهم، فهذا وجه لطيف حسن.
والوجه الثاني: أن الهلاك إذا ورد على الظلمة ورد أيضاً على سائر الناس والدواب، فكان ذلك الهلاك في حق الظلمة عذاباً، وفي حق غيرهم امتحاناً، وقد وقعت هذه الواقعة في زمان نوح عليه السلام.
والوجه الثالث: أنه تعالى لو آخذهم لانقطع القطر وفي انقطاعه انقطاع النبت فكان لا تبقى على ظهرها دابة، وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أنه سمع رجلاً يقول: إن الظالم لا يضر إلا نفسه، فقال: لا والله بل إن الحبارى في وكرها لتموت بظلم الظالم، وعن ابن مسعود رضي الله عنه: كاد الجعل يهلك في جحره بذنب ابن آدم، فهذه الوجوه الثلاثة من الجواب مفرعة على تسليم أن لفظة الدابة يتناول جميع الدواب.
والجواب الثاني: أن المراد من قوله: ما ترك على ظهرها من دابة أي ما ترك على ظهرها من كافر، فالمراد بالدابة الكافر، والدليل عليه قوله تعالى: {أولئك كالأنعام بل هم أضل} [الأعراف: 179] والله أعلم.
المسألة الخامسة: الكناية في قوله: {عليها} عائدة إلى الأرض، ولم يسبق لها ذكر، إلا أن ذكر الدابة يدل على الأرض، فإن الدابة إنما تدب عليها. وكثيراً ما يكنى عن الأرض، وإن لم يتقدم ذكرها لأنهم يقولون ما عليها مثل فلان وما عليها أكرم من فلان، يعنون على الأرض.
ثم قال تعالى: {ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى} ليتوالدوا، وفي تفسير هذا الأجل قولان:
القول الأول: وهو قول عطاء: عن ابن عباس أنه يريد أجل القيامة.
والقول الثاني: أن المراد منتهى العمر.
وجه القول الأول أن معظم العذاب يوافيهم يوم القيامة، ووجه القول الثاني أن المشركين يؤاخذون بالعقوبة إذا انقضت أعمارهم وخرجوا من الدنيا.
النوع الثالث: من الأقاويل الفاسدة التي كان يذكرها الكفار وحكاها الله تعالى عنهم، قوله: {ويجعلون لله ما يكرهون}.
واعلم أن المراد من قوله: {ويجعلون} أي البنات التي يكرهونها لأنفسهم، ومعنى قوله: {يجعلون} يصفون الله بذلك ويحكمون به له كقوله جعلت زيداً علىلناس أي حكمت بهذا الحكم وذكرنا معنى الجعل عند قوله: {ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة} [المائدة: 103].
ثم قال تعالى: {وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى} قال الفراء والزجاج: موضع أن نصب لأن قوله: {أن لهم الحسنى} بدل من الكذب، وتقدير الكلام وتصف ألسنتهم أن لهم الحسنى. وفي تفسير {الحسنى} هاهنا قولان: الأول: المراد منه البنون، يعني أنهم قالوا لله البنات ولنا البنون.
والثاني: أنهم مع قولهم بإثبات البنات لله تعالى، يصفون أنفسهم بأنهم فازوا برضوان الله تعالى بسبب هذا القول، وأنهم على الدين الحق والمذهب الحسن.
الثالث: أنهم حكموا لأنفسهم بالجنة والثواب من الله تعالى.
فإن قيل: كيف يحكمون بذلك وهم كانوا منكرين للقيامة؟
قلنا: كلهم ما كانوا منكرين للقيامة، فقد قيل: إنه كان في العرب جمع يقرون بالبعث والقيامة، ولذلك فإنهم كانوا يربطون البعير النفيس على قبر الميت ويتركونه إلى أن يموت ويقولون: إن ذلك الميت إذا حشر فإنه يحشر معه مركوبه، وأيضاً فبتقدير أنهم كانوا منكرين للقيامة فلعلهم قالوا: إن كان محمد صادقاً في قوله بالبعث والنشور فإنه يحصل لنا الجنة والثواب بسبب هذا الدين الحق الذي نحن عليه، ومن الناس من قال: الأولى أن يحمل {الحسنى} على هذا الوجه بدليل أنه تعالى قال بعده: {لا جرم أن لهم النار} فرد عليهم قولهم وأثبت لهم النار، فدل هذا على أنهم حكموا لأنفسهم بالجنة.
قال الزجاج: لا رد لقولهم، والمعنى ليس الأمر كما وصفوا جرم فعلهم أي كسب ذلك القول لهم النار، فعلى هذا لفظ أن في محل النصب بوقوع الكسب عليه.
وقال قطرب (أن) في موضع رفع، والمعنى: وجب أن لهم النار وكيف كان الإعراب فالمعنى هو أنه يحق لهم النار ويجب ويثبت. وقوله: {وأنهم مفرطون} قرأ نافع وقتيبة عن الكسائي: {مفرطون} بكسر الراء، والباقون: {مفرطون} بفتح الراء.
أما قراءة نافع فقال الفراء: المعنى أنهم كانوا مفرطين على أنفسهم في الذنوب، وقيل: أفرطوا في الافتراء على الله تعالى، وقال أبو علي الفارسي: كأنه من أفرط، أي صار ذا فرط مثل أجرب، أي صار ذا جرب والمعنى: أنهم ذوو فرط إلى النار كأنهم قد أرسلوا من يهيئ لهم مواضع فيها.
وأما قراءة قوله: {مفرطون} بفتح الراء ففيه قولان:
القول الأول: المعنى، أنهم متروكون في النار.
قال الكسائي: يقال ما أفرطت من القوم أحداً، أي ما تركت.
وقال الفراء: تقول العرب أفرطت منهم ناساً، أي خلفتهم وأنسيتهم.
والقول الثاني: {مفرطون} أي معجلون.
قال الواحدي رحمه الله: وهو الاختيار ووجهه ما قال أبو زيد وغيره: فرط الرجل أصحابه يفرطهم فرطاً وفروطاً إذا تقدمهم إلى الماء ليصلح الدلاء والأرسان، وأفرط القوم الفارط، وفرطوه إذا قدموه فمعنى قوله: {مفرطون} على هذا التقدير كأنهم قدموا إلى النار فهم فيها فرط للذين يدخلون بعدهم، ثم بين تعالى أن مثل هذا الصنع الذي يصدر من مشركي قريش قد صدر من سائر الأمم السابقين في حق الأنبياء المتقدمين عليهم السلام، فقال: {تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم} وهذا يجري مجرى التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم فيما كان يناله من الغم بسبب جهالات القوم.
قالت المعتزلة: الآية تدل على فساد قول المجبرة من وجوه:
الأول: أنه إذا كان خالق أعمالهم هو الله تعالى، فلا فائدة في التزيين.
والثاني: أن ذلك التزيين لما كان بخلق الله تعالى لم يجز ذم الشيطان بسببه.
والثالث: أن التزيين هو الذي يدعو الإنسان إلى الفعل، وإذا كان حصول الفعل فيه بخلق الله تعالى كان ضرورياً فلم يكن التزيين داعياً.
والرابع: أن على قولهم، الخالق لذلك العمل، أجدر أن يكون ولياً لهم من الداعي إليه.
والخامس: أنه تعالى أضاف التزيين إلى الشيطان ولو كان ذلك المزين هو الله تعالى لكانت إضافته إلى الشيطان كذباً.
وجوابه: إن كان مزين القبائح في أعين الكفار هو الشيطان، فمزين تلك الوساوس في عين الشيطان إن كان شيطاناً آخر لزم التسلسل. وإن كان هو الله تعالى فهو المطلوب.
ثم قال تعالى: {فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اليوم} وفيه احتمالان: الأول: أن المراد منه كفار مكة وبقوله: {فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اليوم} أي الشيطان ويتولى إغواءهم وصرفهم عنك، كما فعل بكفار الأمم قبلك فيكون على هذا التقدير رجع عن أخبار الأمم الماضية إلى الأخبار عن كفار مكة.
الثاني: أنه أراد باليوم يوم القيامة، يقول فهو ولي أولئك الذين كفروا يزين لهم أعمالهم يوم القيامة، وأطلق اسم اليوم على يوم القيامة لشهرة ذلك اليوم، والمقصود من قوله: {فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اليوم} هو أنه لا ولي لهم ذلك اليوم ولا ناصر، وذلك لأنهم إذا عاينوا العذاب وقد نزل بالشيطان كنزوله بهم، ورأوا أنه لا مخلص له منه، كما لا مخلص لهم منه، جاز أن يوبخوا بأن يقال لهم: هذا وليكم اليوم على وجه السخرية، ثم ذكر تعالى أن مع هذا الوعيد الشديد أقام الحجة وأزاح العلة فقال: {وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الذي اختلفوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: المعنى: أنا ما أنزلنا عليك القرآن إلا لتبين لهم بواسطة بيانات هذا القرآن الأشياء التي اختلفوا فيها، والمختلفون هم أهل الملل والأهواء، وما اختلفوا فيه، هو الدين، مثل التوحيد والشرك والجبر والقدر، وإثبات المعاد ونفيه، ومثل الأحكام، مثل أنهم حرموا أشياء تحل كالبحيرة والسائبة وغيرهما وحللوا أشياء تحرم كالميتة.
المسألة الثانية: اللام في قوله: {لِتُبَيِّنَ} تدل على أن أفعال الله تعالى معللة بالأغراض، ونظيره آيات كثيرة منها قوله: {كِتَابٌ أنزلناه إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس} [إبراهيم: 1] وقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
وجوابه: أنه لما ثبت بالعقل امتناع التعليل وجب صرفه إلى التأويل.
المسألة الثالثة: قال صاحب الكشاف قوله: {هُدًى وَرَحْمَةً} معطوفان على محل قوله: {لِتُبَيِّنَ} إلا أنهما انتصبا على أنه مفعول لهما، لأنهما فعلا الذي أنزل الكتاب، ودخلت اللام في قوله: {لِتُبَيِّنَ} لأنه فعل المخاطب لا فعل المنزل، وإنما ينتصب مفعولاً له ما كان فعلاً لذلك الفاعل.
المسألة الرابعة: قال الكلبي: وصف القرآن بكونه هدى ورحمة لقوم يؤمنون، لا ينفي كونه كذلك في حق الكل، كما أن قوله تعالى في أول سورة البقرة: {هُدًى لّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] لا ينفي كونه هدى لكل الناس، كما ذكره في قوله: {هُدًى لّلنَّاسِ وبينات مِّنَ الهدى والفرقان} [البقرة: 185] وإنما خص المؤمنين بالذكر من حيث إنهم قبلوه فانتفعوا به، كما في قوله: {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يخشاها} [النازعات: 45] لأنه إنما انتفع بإنذاره هذا القوم فقط، والله أعلم.


{وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)}
اعلم أنا قد ذكرنا أن المقصود الأعظم من هذا القرآن العظيم تقرير أصول أربعة: الإلهيات والنبوات والمعاد، وإثبات القضاء والقدر، والمقصود الأعظم من هذه الأصول الأربعة تقرير الآلهيات، فلهذا السبب كلما امتد الكلام في فصل من الفصول في وعيد الكفار عاد إلى تقرير الآلهيات، وقد ذكرنا في أول هذه السورة أنه تعالى لما أراد ذكر دلائل الآلهيات ابتدأ بالأجرام الفلكية، وثنى بالإنسان، وثلث بالحيوان، وربع بالنبات، وخمس بذكر أحوال البحر والأرض، فهاهنا في هذه الآية لما عاد إلى تقرير دلائل الإلهيات بدأ أولاً بذكر الفلكيات فقال: {والله أَنزَلَ مِنَ السماء مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} والمعنى: أنه تعالى خلق السماء على وجه ينزل منه الماء ويصير ذلك الماء سبباً لحياة الأرض، والمراد بحياة الأرض نبات الزرع والشجر والنور والثمر بعد أن كان لا يثمر، وينفع بعد أن كان لا ينفع، وتقرير هذه الدلائل قد ذكرناه مراراً كثيرة.
ثم قال تعالى: {إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} سماع إنصاف وتدبر لأن من لم يسمع بقلبه فكأنه أصم لم يسمع.
والنوع الثاني: من الدلائل المذكورة في هذه الآيات الاستدلال بعجائب أحوال الحيوانات وهو قوله: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مّمَّا فِي بُطُونِهِ} قد ذكرنا معنى العبرة في قوله: {لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبصار} [آل عمران: 13] وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحفص عن عاصم، وحمزة والكسائي: {نُّسْقِيكُمْ} بضم النون، والباقون بالفتح، أما من فتح النون فحجته ظاهرة تقول سقيته حتى روى أسقيه قال تعالى: {وسقاهم رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} [الإنسان: 21] وقال: {والذى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ} [الشعراء: 79] وقال: {وَسُقُواْ مَاء حَمِيماً} [محمد: 15] ومن ضم النون فهو من قولك أسقاه إذا جعل له شراباً كقوله: {وأسقيناكم مَّاء فُرَاتاً} [المرسلات: 27] وقوله: {فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} [الحجر: 22] والمعنى هاهنا أنا جعلناه في كثرته وإدامته كالسقيا، واختار أبو عبيد الضم قال لأنه شرب دائم، وأكثر ما يقال في هذا المقام أسقيت.
المسألة الثانية: قوله: {مما في بطونه} الضمير عائد إلى الأنعام فكان الواجب أن يقال مما في بطونها، وذكر النحويون فيه وجوهاً: الأول: أن لفظ الأنعام لفظ مفرد وضع لإفادة جمع، كالرهط والقوم والبقر والنعم، فهو بحسب اللفظ لفظ مفرد فيكون ضميره ضمير الواحد، وهو التذكير، وبحسب المعنى جمع فيكون ضميره ضمير الجمع، وهو التأنيث، فلهذا السبب قال هاهنا {فِي بُطُونِهِ}، وقال في سورة المؤمنين: {فِى بُطُونِهَا} [المؤمنون: 21].
الثاني: قوله: {فِي بُطُونِهِ} أي في بطون ما ذكرنا، وهذا جواب الكسائي.
قال المبرد: هذا شائع في القرآن.
قال تعالى: {فَلَماَّ رَأَى الشمس بازغةً قَالَ هذا رَبّى} [الأنعام: 78] يعني هذا الشيء الطالع ربي.
وقال: {كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَاء ذَكَرَهُ} [المدثر: 54، 55] أي ذكر هذا الشيء.
واعلم أن هذا إنما يجوز فيما يكون تأنيثه غير حقيقي، أما الذي يكون تأنيثه حقيقياً، فلا يجوز، فإنه لا يجوز في مستقيم الكلام أن يقال جاريتك ذهب، ولا غلامك ذهب على تقدير أن نحمله على النسمة.
الثالث: أن فيه إضماراً، والتقدير: نسقيكم مما في بطونه اللبن إذ ليس كلها ذات لبن.
المسألة الثالثة: الفرث: سرجين الكرش.
روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال: إذا استقر العلف في الكرش صار أسفله فرثاً وأعلاه دماً وأوسطه لبناً، فيجري الدم في العروق واللبن في الضرع، ويبقى الفرث كما هو، فذاك هو قوله تعالى: {مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا} لا يشوبه الدم ولا الفرث.
ولقائل أن يقول: الدم واللبن لا يتولدان ألبتة في الكرش، والدليل عليه الحس فإن هذه الحيوانات تذبح ذبحاً متوالياً، وما رأى أحد في كرشها لا دماً ولا لبناً، ولو كان تولد الدم واللبن في الكرش لوجب أن يشاهد ذلك في بعض الأحوال، والشيء الذي دلت المشاهدة على فساده لم يجز المصير إليه، بل الحق أن الحيوان إذا تناول الغذاء وصل ذلك العلف إلى معدته إن كان إنساناً، وإلى كرشه إن كان من الأنعام وغيرها، فإذا طبخ وحصل الهضم الأول فيه فما كان منه صافياً انجذب إلى الكبد، وما كان كثيفاً نزل إلى الأمعاء، ثم ذلك الذي يحصل منه في الكبد ينطبخ فيها ويصير دماً، وذلك هو الهضم الثاني، ويكون ذلك الدم مخلوطاً بالصفراء والسوداء وزيادة المائية، أما الصفراء فتذهب إلى المرارة، والسوداء إلى الطحال، والماء إلى الكلية، ومنها إلى المثانة، وأما ذلك الدم فإنه يدخل في الأوردة، وهي العروق النابتة من الكبد، وهناك يحصل الهضم الثالث، وبين الكبد وبين الضرع عروق كثيرة فينصب الدم في تلك العروق إلى الضرع، والضرع لحم غددي رخو أبيض فيقلب الله تعالى الدم عند انصبابه إلى ذلك اللحم الغددي الرخو الأبيض من صورة الدم إلى صورة اللبن فهذا هو القول الصحيح في كيفية تولد اللبن.
فإن قيل: فهذه المعاني حاصلة في الحيوان الذكر فلم لم يحصل منه اللبن؟
قلنا: الحكمة الإلهية اقتضت تدبير كل شيء على الوجه اللائق به الموافق لمصلحته، فمزاج الذكر من كل حيوان يجب أن يكون حاراً يابساً، ومزاج الأنثى يجب أن يكون بارداً رطباً، والحكمة فيه أن الولد إنما يتكون في داخل بدن الأنثى، فوجب أن تكون الأنثى مختصة بمزيد الرطوبات لوجهين:
الأول: أن الولد إنما يتولد من الرطوبات، فوجب أن يحصل في بدن الأنثى رطوبات كثيرة لتصير مادة لتولد الولد.
والثاني: أن الولد إذا كبر وجب أن يكون بدن الأم قابلاً للتمدد حتى يتسع لذلك الولد، فإذا كانت الرطوبات غالبة على بدن الأم كان بدنها قابلاً للتمدد، فيتسع للولد، فثبت بما ذكرنا أنه تعالى خص بدن الأنثى من كل حيوان بمزيد الرطوبات لهذه الحكمة، ثم إن الرطوبات التي كانت تصير مادة لازدياد بدن الجنين حين كان في رحم الأم، فعند انفصال الجنين تنصب إلى الثدي والضرع ليصير مادة لغذاء ذلك الطفل الصغير.
إذا عرفت هذا فاعلم أن السبب الذي لأجله يتولد اللبن من الدم في حق الأنثى غير حاصل في حق الذكر فظهر الفرق.
إذا عرفت هذا التصوير فنقول: المفسرون قالوا: المراد من قوله: {مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ} هو أن هذه الثلاثة تتولد في موضع واحد، فالفرث يكون في أسفل الكرش، والدم يكون في أعلاه، واللبن يكون في الوسط، وقد دللنا على أن هذا القول على خلاف الحس والتجربة، ولأن الدم لو كان يتولد في أعلى المعدة والكرش كان يجب إذا قاء أن يقيء الدم وذلك باطل قطعاً.
وأما نحن فنقول: المراد من الآية هو أن اللبن إنما يتولد من بعض أجزاء الدم، والدم إنما يتولد من الأجزاء اللطيفة التي في الفرث، وهو الأشياء المأكولة الحاصلة في الكرش، وهذا اللبن متولد من الأجزاء التي كانت حاصلة فيما بين الفرث أولاً، ثم كانت حاصلة فيما بين الدم ثانياً، فصفاه الله تعالى عن تلك الأجزاء الكثيفة الغليظة، وخلق فيها الصفات التي باعتبارها صارت لبناً موافقاً لبدن الطفل، فهذا ما حصلناه في هذا المقام، والله أعلم.
المسألة الرابعة: اعلم أن حدوث اللبن في الثدي واتصافه بالصفات التي باعتبارها يكون موافقاً لتغذية الصبي مشتمل على حكم عجيبة وأسرار بديعة، يشهد صريح العقل بأنها لا تحصل إلا بتدبير الفاعل الحكيم والمدبر الرحيم، وبيانه من وجوه:
الأول: أنه تعالى خلق في أسفل المعدة منفذاً يخرج منه ثقل الغذاء، فإذا تناول الإنسان غذاء أو شربة رقيقة انطبق ذلك المنقذ انطباقاً كلياً لا يخرج منه شيء من ذلك المأكول والمشروب إلى أن يكمل انهضامه في المعدة وينجذب ما صفا منه إلى الكبد ويبقى الثقل هناك، فحينئذ ينفتح ذلك المنفذ ويترك منه ذلك الثقل، وهذا من العجائب التي لا يمكن حصولها إلا بتدبير الفاعل الحكيم، لأنه متى كانت الحاجة إلى بقاء الغذاء في المعدة حاصلة انطبق ذلك المنفذ، وإذا حصلت الحاجة إلى خروج ذلك الجسم عن المعدة انفتح، فحصول الانطباق تارة والانفتاح أخرى، بحسب الحاجة وتقدير المنفعة، مما لا يتأتى إلا بتقدير الفاعل الحكيم.
الثاني: أنه تعالى أودع في الكبد قوة تجذب الأجزاء اللطيفة الحاصلة في ذلك المأكول أو المشروب، ولا تجذب الأجزاء الكثيفة، وخلق في الأمعاء قوة تجذب تلك الأجزاء الكثيفة التي هي الثقل، ولا تجذب الأجزاء اللطيفة ألبتة. ولو كان الأمر بالعكس لاختلفت مصلحة البدن ولفسد نظام هذا التركيب.
الثالث: أنه تعالى أودع في الكبد قوة هاضمة طابخة، حتى أن تلك الأجزاء اللطيفة تنطبخ في الكبد وتنقلب دماً، ثم إنه تعالى أودع في المرارة قوة جاذبة للصفراء، وفي الطحال قوة جاذبة للسوداء، وفي الكلية قوة جاذبة لزيادة المائية، حتى يبقى الدم الصافي الموافق لتغذية البدن. وتخصيص كل واحد من هذه الأعضاء بتلك القوة والخاصية لا يمكن إلا بتقدير الحكيم العليم.
الرابع: أن في الوقت الذي يكون الجنين في رحم الأم ينصب من ذلك الدم نصيب وافر إليه حتى يصير مادة لنمو أعضاء ذلك الولد وازدياده، فإذا انفصل ذلك الجنين عن الرحم ينصب ذلك النصيب إلى جانب الثدي ليتولد منه اللبن الذي يكون غذاء له، فإذا كبر الولد لم ينصب ذلك النصيب لا إلى الرحم ولا إلى الثدي، بل ينصب على مجموع بدن المتغذي، فانصباب ذلك الدم في كل وقت إلى عضو آخر انصباباً موافقاً للمصلحة والحكمة لا يتأتى إلا بتدبير الفاعل المختار الحكيم.
والخامس: أن عند تولد اللبن في الضرع أحدث تعالى في حلمة الثدي ثقوباً صغيرة ومسام ضيقة، وجعلها بحيث إذا اتصل المص أو الحلب بتلك الحلمة انفصل اللبن عنها في تلك المسام الضيقة، ولما كانت تلك المسام ضيقة جداً، فحينئذ لا يخرج منها إلا ما كان في غاية الصفاء واللطافة، وأما الأجزاء الكثيفة فإنه لا يمكنها الخروج من تلك المنافذ الضيقة فتبقى في الداخل، والحكمة في إحداث تلك الثقوب الصغيرة، والمنافذ الضيقة في رأس حلمة الثدي أن يكون ذلك كالمصفاة، فكل ما كان لطيفاً خرج، وكل ما كان كثيفاً احتبس في الداخل ولم يخرج، فبهذا الطريق يصير ذلك اللبن خالصاً موافقاً لبدن الصبي سائغاً للشاربين.
السادس: أنه تعالى ألهم ذلك الصبي إلى المص، فإن الأم كلما ألقمت حلمة الثدي في فم الصبي فذلك الصبي في الحال يأخذ في المص، فلولا أن الفاعل المختار الرحيم ألهم ذلك الطفل الصغير ذلك العمل المخصوص، وإلا لم يحصل الانتفاع بتخليق ذلك اللبن في الثدي.
السابع: أنا بينا أنه تعالى إنما خلق اللبن من فضلة الدم، وإنما خلق الدم من الغذاء الذي يتناوله الحيوان فالشاة لما تناولت العشب والماء فالله تعالى خلق الدم من لطيف تلك الأجزاء، ثم خلق اللبن من بعض أجزاء ذلك الدم، ثم إن اللبن حصلت فيه أجزاء ثلاثة على طبائع متضادة، فما فيه من الدهن يكون حاراً رطباً، وما فيه من المائية يكون بارداً رطباً، وما فيه من الجبنية يكون بارداً يابساً، وهذه الطبائع ما كانت حاصلة في ذلك العشب الذي تناولته الشاة، فظهر بهذا أن هذه الأجسام لا تزال تنقلب من صفة إلى صفة ومن حالة إلى حالة، مع أنه لا يناسب بعضها بعضاً ولا يشاكل بعضها بعضاً، وعند ذلك يظهر أن هذه الأحوال إنما تحدث بتدبير فاعل حكيم رحيم يدبر أحوال هذا العالم على وفق مصالح العباد، فسبحان من تشهد جميع ذرات العالم الأعلى والأسفل بكمال قدرته ونهاية حكمته ورحمته، له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين.
أما قوله: {سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ} فمعناه: جارياً في حلوقهم لذيذاً هنيئاً. يقال: ساغ الشراب في الحلق وأساغه صاحبه، ومنه قوله: {وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ} [إبراهيم: 17].
المسألة الخامسة: قال أهل التحقيق: اعتبار حدوث اللبن كما يدل على وجود الصانع المختار سبحانه، فكذلك يدل على إمكان الحشر والنشر، وذلك لأن هذا العشب الذي يأكله الحيوان إنما يتولد من الماء والأرض، فخالق العالم دبر تدبيراً، فقلب ذلك الطين نباتاً وعشباً، ثم إذا أكله الحيوان دبر تدبيراً آخر فقلب ذلك العشب دماً، ثم دبر تدبيراً آخر فقلب ذلك الدم لبناً، ثم دبر تدبيراً آخر فحدث من ذلك اللبن الدهن والجبن، فهذا يدل على أنه تعالى قادر على أن يقلب هذه الأجسام من صفة إلى صفة، ومن حالة إلى حالة فإذا كان كذلك لم يمتنع أيضاً أن يكون قادراً على أن يقلب أجزاء أبدان الأموات إلى صفة الحياة والعقل كما كانت قبل ذلك، فهذا الاعتبار يدل من هذا الوجه على أن البعث والقيامة أمر ممكن غير ممتنع، والله أعلم.
ثم قال تعالى: {وَمِن ثمرات النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} اعلم أنه تعالى لما ذكر بعض منافع الحيوانات في الآية المتقدمة، ذكر في هذه الآية بعض منافع النبات، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: فإن قيل: بم تعلق قوله: {وَمِن ثمرات النخيل والأعناب}.
قلنا: بمحذوف تقديره: ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب أي من عصيرها وحذف لدلالة نسقيكم قبله عليه. وقوله: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا} بيان وكشف عن كنه الإسقاء.
المسألة الثانية: قال الواحدي: {الأعناب} عطف على الثمرات لا على النخيل، لأنه يصير التقدير: ومن ثمرات الأعناب، والعنب نفسه ثمرة وليست له ثمرة أخرى.
المسألة الثالثة: في تفسير السكر وجوه:
الأول: السكر الخمر سميت بالمصدر من سكر سكراً وسكراً نحو: رشد رشداً ورشداً، وأما الرزق الحسن فسائر ما يتخذ من النخيل والأعناب كالرب والخل والدبس والتمر والزبيب.
فإن قيل: الخمر محرمة فكيف ذكرها الله في معرض الإنعام؟
أجابوا عنه من وجهين:
الأول: أن هذه السورة مكية، وتحريم الخمر نزل في سورة المائدة، فكان نزول هذه الآية في الوقت الذي كانت الخمر فيه غير محرمة.
الثاني: أنه لا حاجة إلى التزام هذا النسخ، وذلك لأنه تعالى ذكر ما في هذه الأشياء من المنافع، وخاطب المشركين بها، والخمر من أشربتهم فهي منفعة في حقهم، ثم إنه تعالى نبه في هذه الآية أيضاً على تحريمها، وذلك لأنه ميز بينها وبين الرزق الحسن في الذكر، فوجب أن لا يكون السكر رزقاً حسناً، ولا شك أنه حسن بحسب الشهوة، فوجب أن يقال الرجوع عن كونه حسناً بحسب الشريعة، وهذا إنما يكون كذلك إذا كانت محرمة.
القول الثاني: أن السكر هو النبيذ، وهو عصير العنب والزبيب والتمر إذا طبخ حتى يذهب ثلثاه ثم يترك حتى يشتد، وهو حلال عند أبي حنيفة رحمه الله إلى حد السكر، ويحتج بأن هذه الآية تدل على أن السكر حلال لأنه تعالى ذكره في معرض الإنعام والمنة، ودل الحديث على أن الخمر حرام قال عليه السلام: «الخمر حرام لعينها» وهذا يقتضي أن يكون السكر شيئاً غير الخمر، وكل من أثبت هذه المغايرة قال إنه النبيذ المطبوخ.
والقول الثالث: أن السكر هو الطعام قاله أبو عبيدة: واحتج عليه بقول الشاعر:
جعلت أعراض الكرام سكراً ***
أي جعلت ذمهم طعاماً لك، قال الزجاج: هذا بالخمر أشبه منه بالطعام، والمعنى أنك جعلت تتخمر بأعراض الكرام، والمعنى: أنه جعل شغفه بغيبة الناس وتمزيق أعراضهم جارياً مجرى شرب الخمر.
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه الوجوه التي هي دلائل من وجه، وتعديد للنعم العظيمة من وجه آخر، قال: {إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} والمعنى: أن من كان عاقلاً، علم بالضرورة أن هذه الأحوال لا يقدر عليها إلا الله سبحانه وتعالى، فيحتج بحصولها على وجود الإله القادر الحكيم، والله أعلم.


{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)}
اعلم أنه تعالى لما بين أن إخراج الألبان من النعم، وإخراج السكر والرزق الحسن من ثمرات النخيل والأعناب دلائل قاهرة، وبينات باهرة على أن لهذا العالم إلهاً قادراً مختاراً حكيماً، فكذلك إخراج العسل من النحل دليل قاطع وبرهان ساطع على إثبات هذا المقصود، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قوله: {وأوحى رَبُّكَ إلى النحل} يقال وحى وأوحى، وهو الإلهام، والمراد من الإلهام أنه تعالى قرر في أنفسها هذه الأعمال العجيبة التي تعجز عنها العقلاء من البشر، وبيانه من وجوه:
الأول: أنها تبني البيوت المسدسة من أضلاع متساوية، لا يزيد بعضها على بعض بمجرد طباعها، والعقلاء من البشر لا يمكنهم بناء مثل تلك البيوت إلا بآلات وأدوات مثل المسطر والفرجار.
والثاني: أنه ثبت في الهندسة أن تلك البيوت لو كانت مشكلة بأشكال سوى المسدسات فإنه يبقى بالضرورة فيما بين تلك البيوت فرج خالية ضائعة، أما إذا كانت تلك البيوت مسدسة فإنه لا يبقى فيما بينها فرج ضائعة، فإهداء ذلك الحيوان الضعيف إلى هذه الحكمة الخفية والدقيقة اللطيفة من الأعاجيب.
والثالث: أن النحل يحصل فيما بينها واحد يكون كالرئيس للبقية، وذلك الواحد يكون أعظم جثة من الباقي، ويكون نافذ الحكم على تلك البقية، وهم يخدمونه ويحملونه عند الطيران، وذلك أيضاً من الأعاجيب.
والرابع: أنها إذا نفرت من وكرها ذهبت مع الجمعية إلى موضع آخر، فإذا أرادوا عودها إلى وكرها ضربوا الطنبور والملاهي وآلات الموسيقى، وبواسطة تلك الألحان يقدرون على ردها إلى وكرها، وهذا أيضاً حالة عجيبة، فلما امتاز هذا الحيوان بهذه الخواص العجيبة الدالة على مزيد الذكاء والكياسة، وكان حصول هذه الأنواع من الكياسة ليس إلا على سبيل الإلهام وهي حالة شبيهة بالوحي، لا جرم قال تعالى في حقها: {وأوحى رَبُّكَ إلى النحل}.
واعلم أن الوحي قد ورد في حق الأنبياء لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً} [الشورى: 51] وفي حق الأولياء أيضاً قال تعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين} [المائدة: 111] وبمعنى الإلهام في حق البشر قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إلى أُمّ موسى} [القصص: 7] وفي حق سائر الحيوانات كما في قوله: {وأوحى رَبُّكَ إلى النحل} ولكل واحد من هذه الأقسام معنى خاص، والله أعلم.
المسألة الثانية: قال الزجاج: يجوز أن يقال سمي هذا الحيوان نحلاً، لأن الله تعالى نحل الناس العسل الذي يخرج من بطونها، وقال غيره النحل يذكر ويؤنث، وهي مؤنثة في لغة الحجاز، ولذلك أنثها الله تعالى، وكذلك كل جمع ليس بينه وبين واحده إلا الهاء.
ثم قال تعالى: {أَنِ اتخذى مِنَ الجبال بُيُوتًا وَمِنَ الشجر وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال صاحب الكشاف: {أَنِ اتخذى} هي أن المفسرة، لأن الإيحاء فيه معنى القول، وقرئ: {بُيُوتًا} بكسر الباء {وَمِنَ الشجر وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} أي يبنون ويسقفون، وفيه لغتان قرئ بهما، ضم الراء وكسرها مثل يعكفون ويعكفون.
واعلم أن النحل نوعان:
النوع الأول: ما يسكن في الجبال والغياض ولا يتعهدها أحد من الناس.
والنوع الثاني: التي تسكن بيوت الناس وتكون في تعهدات الناس، فالأول هو المراد بقوله: {أَنِ اتخذى مِنَ الجبال بُيُوتًا وَمِنَ الشجر}.
والثاني: هو المراد بقوله: {وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} وهو خلايا النحل.
فإن قيل: ما معنى من في قوله: {أَنِ اتخذى مِنَ الجبال بُيُوتًا وَمِنَ الشجر وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} وهلا قيل في الجبال وفي الشجر؟
قلنا: أريد به معنى البعضية، وأن لا تبني بيوتها في كل جبل وشجر، بل في مساكن توافق مصالحها وتليق بها.
المسألة الثانية: ظاهر قوله تعالى: {أَنِ اتخذى مِنَ الجبال بُيُوتًا} أمر، وقد اختلفوا فيه، فمن الناس من يقول لا يبعد أن يكون لهذه الحيوانات عقول، ولا يبعد أن يتوجه عليها من الله تعالى أمر ونهي.
وقال آخرون: ليس الأمر كذلك بل المراد منه أنه تعالى خلق فيها غرائز وطبائع توجب هذه الأحوال، والكلام المستقصى في هذه المسألة مذكور في تفسير قوله تعالى: {يأَيُّهَا النمل ادخلوا مساكنكم} [النمل: 18].
ثم قال تعالى: {ثُمَّ كُلِى مِن كُلِّ الثمرات} لفظة من هاهنا للتبعيض أو لابتداء الغاية، ورأيت في كتب الطب أنه تعالى دبر هذا العالم على وجه، وهو أنه يحدث في الهواء طل لطيف في الليالي ويقع ذلك الطل على أوراق الأشجار، فقد تكون تلك الأجزاء الطلية لطيفة صغيرة متفرقة على الأوراق والأزهار، وقد تكون كثيرة بحيث يجتمع منها أجزاء محسوسة.
أما القسم الثاني: فهو مثل الترنجبين فإنه طل ينزل من الهواء ويجتمع على أطراف الطرفاء في بعض البلدان وذلك محسوس.
وأما القسم الأول: فهو الذي ألهم الله تعالى هذا النحل حتى أنها تلتقط تلك الذرات من الأزهار وأوراق الأشجار بأفواهها وتأكلها وتغتذي بها، فإذا شبعت التقطت بأفواهها مرة أخرى شيئاً من تلك الأجزاء وذهبت بها إلى بيوتها ووضعتها هناك، لأنها تحاول أن تدخر لنفسها غذاءها، فإذا اجتمع في بيوتها من تلك الأجزاء الطلية شيء كثير فذاك هو العسل، ومن الناس من يقول: إن النحل تأكل من الأزهار الطيبة والأوراق المعطرة أشياء، ثم إنه تعالى يقلب تلك الأجسام في داخل بدنها عسلاً، ثم إنها تقيء مرة أخرى فذاك هو العسل، والقول الأول أقرب إلى العقل وأشد مناسبة إلى الاستقراء، فإن طبيعة الترنجبين قريبة من العسل في الطعم والشكل، ولا شك أنه طل يحدث في الهواء ويقع على أطراف الأشجار والأزهار فكذا هاهنا. وأيضاً فنحن نشاهد أن هذا النحل إنما يتغذى بالعسل، ولذلك فإنا إذا استخرجنا العسل من بيوت النحل نترك لها بقية من ذلك لأجل أن تغتذي بها فعلمنا أنها إنما تغتذي بالعسل وأنها إنما تقع على الأشجار والأزهار لأنها تغتذي بتلك الأجزاء الطلية العسلية الواقعة من الهواء عليها.
إذا عرفت هذا فنقول: قوله تعالى: {ثُمَّ كُلِى مِن كُلّ الثمرات} كلمة (من) هاهنا تكون لابتداء الغاية، ولا تكون للتبعيض على هذا القول.
ثم قال تعالى: {فاسلكى سُبُلَ رَبّكِ} والمعنى: ثم كلي كل ثمرة تشتهينها فإذا أكلتها فاسلكي سبل ربك في الطرق التي ألهمك وأفهمك في عمل العسل، أو يكون المراد: فاسلكي في طلب تلك الثمرات سبل ربك.
أما قوله: {ذُلُلاً} ففيه قولان: الأول: أنه حال من السبل لأن الله تعالى ذللها لها ووطأها وسهلها، كقوله: {هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولاً} [الملك: 15] الثاني: أنه حال من الضمير في {فاسلكى} أي وأنت أيها النحل ذلل منقادة لما أمرت به غير ممتنعة.
ثم قال تعالى: {يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا} وفيه بحثان:
البحث الأول: أن هذا رجوع من الخطاب إلى الغيبة والسبب فيه أن المقصود من ذكر هذه الأحوال أن يحتج الإنسان المكلف به على قدرة الله تعالى وحكمته وحسن تدبيره لأحوال العالم العلوي والسفلي، فكأنه تعالى لما خاطب النحل بما سبق ذكره خاطب الإنسان وقال: إنا ألهمنا هذا النحل لهذه العجائب، لأجل أن يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه.
البحث الثاني: أنه قد ذكرنا أن من الناس من يقول: العسل عبارة عن أجزاء طلية تحدث في الهواء وتقع على أطراف الأشجار وعلى الأوراق والأزهار، فيلقطها الزنبور بفمه، فإذا ذهبنا إلى هذا الوجه كان المراد من قوله: {يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا} أي من أفواهها، وكل تجويف في داخل البدن فإنه يسمى بطناً، ألا ترى أنهم يقولون: بطون الدماغ وعنوا أنها تجاويف الدماغ، وكذا هاهنا يخرج من بطونها أي من أفواهها، وأما على قول أهل الظاهر، وهو أن النحلة تأكل الأوراق والثمرات ثم تقيء فذلك هو العسل فالكلام ظاهر.
ثم قال تعالى: {شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ} اعلم أنه تعالى وصف العسل بهذه الصفات الثلاثة:
فالصفة الأولى: كونه شراباً والأمر كذلك، لأنه تارة يشرب وحده وتارة يتخذ منه الأشربة.
والصفة الثانية: قوله: {مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} والمعنى: أن منه أحمر وأبيض وأصفر. ونظيره قوله تعالى: {وَمِنَ الجبال جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ ألوانها وَغَرَابِيبُ سُودٌ} [فاطر: 27] والمقصود منه: إبطال القول بالطبع، لأن هذا الجسم مع كونه متساوي الطبيعة لما حدث على ألوان مختلفة، دل ذلك على أن حدوث تلك الألوان بتدبير الفاعل المختار، لا لأجل إيجاد الطبيعة.
والصفة الثالثة: قوله: {فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ} وفيه قولان:
القول الأول: وهو الصحيح أنه صفة للعسل.
فإن قالوا: كيف يكون شفاء للناس وهو يضر بالصفراء ويهيج المرارة؟
قلنا: إنه تعالى لم يقل إنه شفاء لكل الناس ولكل داء وفي كل حال، بل لما كان شفاء للبعض من بعض الأدواء صلح بأن يوصف بأنه فيه شفاء، والذي يدل على أنه شفاء في الجملة أنه قل معجون من المعاجين إلا وتمامه وكماله إنما يحصل بالعجن بالعسل، وأيضاً فالأشربة المتخذة منه في الأمراض البلغمية عظيمة النفع.
والقول الثاني: وهو قول مجاهد أن المراد: أن القرآن شفاء للناس، وعلى هذا التقدير فقصة تولد العسل من النحل تمت عند قوله: {يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} ثم ابتدأ وقال: {فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ} أي في هذا القرآن حصل ما هو شفاء للناس من الكفر والبدعة، مثل هذا الذي في قصة النحل.
وعن ابن مسعود: أن العسل شفاء من كل داء، والقرآن شفاء لما في الصدور.
واعلم أن هذا القول ضعيف ويدل عليه وجهان:
الأول: أن الضمير في قوله: {فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ} يجب عوده إلى أقرب المذكورات، وما ذاك إلا قوله: {شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} وأما الحكم بعود هذا الضمير إلى القرآن مع أنه غير مذكور فيما سبق، فهو غير مناسب.
والثاني: ما روى أبو سعيد الخدري: أنه جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إن أخي يشتكي بطنه فقال: اسقه عسلاً فذهب ثم رجع فقال: قد سقيته فلم يغن عنه شيئاً، فقال عليه الصلاة والسلام: «اذهب واسقه عسلاً» فذهب فسقاه، فكأنما نشط من عقال، فقال: «صدق الله وكذب بطن أخيك» وحملوا قوله: «صدق الله وكذب بطن أخيك» على قوله: {فِيهِ شِفَآء لِلنَّاسِ} وذلك إنما يصح لو كان هذا صفة للعسل.
فإن قال قائل: ما المراد بقوله عليه السلام: «صدق الله وكذب بطن أخيك».
قلنا: لعله عليه السلام علم بنور الوحي أن ذلك العسل سيظهر نفعه بعد ذلك، فلما لم يظهر نفعه في الحال مع أنه عليه السلام كان عالماً بأنه سيظهر نفعه بعد ذلك، كان هذا جارياً مجرى الكذب، فلهذا السبب أطلق عليه هذا اللفظ.
ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} واعلم أن تقرير هذه الآية من وجوه:
الأول: اختصاص النحل بتلك العلوم الدقيقة والمعارف الغامضة مثل بناء البيوت المسدسة وسائر الأحوال التي ذكرناها.
والثاني: اهتداؤها إلى جميع تلك الأجزاء العسلية من أطراف الأشجار والأوراق.
والثالث: خلق الله تعالى الأجزاء النافعة في جو الهواء، ثم إلقاؤها على أطراف الأشجار والأوراق، ثم إلهام النحل إلى جمعها بعد تفريقها وكل ذلك أمور عجيبة دالة على أن إله العالم بنى ترتيبه على رعاية الحكمة والمصلحة، والله أعلم.

5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12